Your cart is currently empty!

المرض في السيناريو
المرض عنصر طبيعي في الحياة، ليس منا من لم يمرض، وليس منا من لم يعاني مرض قريب أو صديق له، وبما أن الأدب يعكس حياتنا فإن وجود المرض في الأدب أمر طبيعي، بل إن وجوده لازم في أحيان كثيرة حتى تستقيم الرواية أو السيناريو، ولكن المرض في السيناريو – سواء كان روائي أو سينمائي – ليس عارضًا كالحياة الطبيعية، وإنما هو مُفتعمل ومُتعمد من قبل الكاتب، لهذا يلعب المرض في السيناريو دورًا هامًا وحيويًا.
يمكن للمرض أن يضيف للعمل جرعة عاطفية كبيرة ومركزة، ويمكن له أن يتسبب في حالة فوضى طارئة تُخرج الشخصيات عن طبيعتها وتكشف دواخلها، ويمكن له أن يمتحن شخصيات أخرى في العمل لا تصاب بالمرض ولكن تكون قريبة ممن أصيب به، لذا تعتبر مشاهد المرض ذات تأثير قوي على المتلقي، وغالبًا ما تعلق في الذهن جراء ما تحويه من مشاعر قوية وواضحة.
ولكن استخدام المرض في الأعمال الدرامية ليس واحدًا، فقد يكون المرض هو موضوع العمل الأساسي، وقد يكون سمة من سمات الشخصية، وقد يكون عقبة في سلسلة العقبات التي تخلق الصراع في العمل.
وفي حال كان المرض هو الموضوع الأساسي فإن كل شخصيات العمل وأحداثه سوف تدور حوله، ليس من الضروري هنا أن يكون المريض هو بطل العمل؛ فقد يكون المريض أو المرضى شخصيات ثانوية ويكون البطل طبيبًا أو باحثًا أو قريبًا للمريض مثلًا، وقد يكون هدف البطل هو الدفاع عن حق المرضى في العلاج، أو مناقشة قضايا الصحة والعلاج على نفقة الدولة أو مشكلات التأمين الطبي أو أخلاقيات إجراء التجارب على المرضى، أو حتى مجرد عمل يستعرض المرض ويبرز معاناته وأعراضه وأسباب وطرق علاجه وتاريخه وآثارة النفسية والاجتماعية على المريض وأسرته.
وقد يقرر الكاتب استخدام المرض كسمة للشخصية، والمُستخدم هنا غالبًا هو الأمراض المزمنة، وسواء وُجد هذا المرض في الحياة الداخلية للشخصصية قبل بدء أحداث الرواية أو سيتم إيجاده بعدها ليلازم الشخصية ويؤثر فيها، يفيد المرض كسمة للشخصية في خلق نقطة ضعف تكسر كمال الشخصيات أحيانًا، كما أنه قد يُظهر شكل من أشكال العدالة في توزيع القوى بين البشر، وقد يُستخدم لتغيير الشخصية وإضعافها وتوليد صفات جديدة لديها، وقد يُستخدم المرض لخلق علاقة عاطفية للشخصية مع غيرها، وقد يكون طريقة لتطوير الأسلوب الذي ترى به الشخصية نفسها من الأساس فيؤدي لتعديل أفكار الشخصية وقيمها وخياراتها في العمل.
أما حين يُستخدم المرض كعقبة في الصراع فيكون غالبًا مرض مؤقت، هذا المرض قد يعيق الشخصية لبعض الوقت، وقد يُستخدم لتغيير مجرى الأحداث أو تفويت الفرص، وقد يُستخدم لإخراج الشخصية من حالتها الطبيعية ودفعها للبوح بمشاعرها واحتياجاتها، وقد يكون غربلة سريعة للشخصيات وكشف معدنها وقوة مشاعرها وترابطها.
ومع ذلك يبدو استخدام المرض في الدراما خطرًا لدرجة أن يوصف بالفخ، لماذا؟ لأن استخدام المرض سيزيد من كآبة العمل، والإفراط في استخدامه سينفر المتلقي من العمل وسيشعره بالثقل النفسي، لذا فالتوازن والحكمة مطلوبة من قبل الكاتب ليعرف أين بالضبط عليه أن يتوقف.
كما أن معالجة المرض تعني ضرورة تمتع الكاتب بخلفية علمية وطبية جيدة، حين يعتمد الكاتب على معلوماته العامة فقط فإن الناتج قد يكون مدمرًا للعمل، استخدام اسم دواء خاطئ أو جرعة خاطئة أو طريقة علاج غير صحيحة، أو تضخيم مرض بسيط أو التهوين من مرض خطير كلها سلوكيات قد تنتقص من رصيد العمل وبشدة، وعلينا أن نتذكر أن مشهد المرض بحد ذاته يعد مشهدًا تثقيفيًا بشكل غير مباشر للمتلقي، لذا يعد مشهدًا صعبًا ويحتاج لمسؤولية في كتابته.
الخطورة الثالثة تكمن في الإسراف في استخدام المرض بشكل رتيب، فتظهر الشخصيات وكأنها تمرض بشكل متكرر وبدون عمق أو هدف، هذا الفخ يقع فيه حديثوا الكتابة عادة دون وعي، والسبب هو أن المرض يضع شخصياتهم في حالة فوضى مما يساعدهم على فعل أي شيء دون مبررات، لكن في النهاية يخرج العمل مهلهلًا وضعيفًا للأسف.
وأخيرًا المرض المزمن هو الأخطر، لأن التعامل معه يقتضي التوازن بين: عدم الإسراف، عدم التجاهل، عدم التكرار، فلا يجب أن يسرف الكاتب في مشاهد الألم كثيرًا، وفي الوقت ذاته لا يتجاهل المرض تمامًا، وألا يكرر مشهد الألم ذاته وطريقة علاجه أو تخفيفه كثيرًا، في حالة الأمراض المزمنة قد تحتاج لجرعة مركزة في البداية وتكرار لمشهد الألم مرتين أو ثلاثة وربطه بمسببات أو نواتج معينة، من ثم ضعه في اللاوعي واستخدم ظلاله، واخرجه للنور من وقت لآخر، إنه أشبه بالتحدي!
ويتساوى في كل ذلك المرض الجسدي والنفسي والإعاقات الجسدية، وقد أكون مسرفة حين أضيف لهم المرض الاجتماعي كانفصال الوالدين أو الطلاق.
أضف المنشور للمفضلة
اشترك في مدونة نسمة السيد ممدوح
كن أول من يقرأ جديد المقالات والقصص والمراجعات
تعليقات القراء
أحدث المنشورات
مراجعة رواية ساي لسحر خواتمي وهبة أعرابي
سلسلة فيء الغمام لسحر خواتمي وهبة أعرابي
بداخل كل منَّا جمانة عليه أن يكتشفها ويحفظها، وجميعنا بحاجة لسلام يريح نفوسنا، وجود في عواطفنا، وكلنا نحلم بزينة تجمل…
في ظلال الفصحى
هل تساءلت يومًا عن الفرق بين منشور طويل على منصات التواصل الاجتماعي وبين كتاب تقرؤه؟ لقد تغير الواقع كثيرًا، وأسئلة…
أنا لا أخشى جحر الثعبان
مضت سنوات جاوزت العشر على مقال كتبته ونشرته على موقع مصراوي، حين قرأ أبي المقال قال لي: “لقد وضعتِ يدكِ…
نحن فنانون وأدباء ولسنا تجارًا
تلعب المسابقات دورًا هامًا في شحذ المهارات والقدرات واكتشاف المواهب، وتشبع كلًا من المتسابقين والجمهور نفسيًا، إنها تجربة فريدة تحمل…

نسمة السيد ممدوح
كاتبة ومذيعة مصرية من مواليد 1986، حاصلة على ليسانس الآداب قسم الإعلام – إذاعة وتلفزيون عام 2008.
اترك تعليقاً