Your cart is currently empty!

تَلَبُّس!
الاختلاف والتباين في الآراء أمر طبيعي وصحي ولكن التعامل مع الاختلاف يعكس الكثير من شخصية المرء.
عندما تكون في مناقشة شخصية أو جماعية أو تتعرض لرسالة جماهيرية سواء عبر التلفاز أو منصات التواصل الاجتماعي ويكون المتحدث مخالفًا لك في الرأي ويتملكك شعور قوي بأن الطرف الآخر يحاول إقناعك فانتبه لكونك قد تكون معرضًا فعلًا لرأي قوي يستند لحجة قوية، لأن نظامك الدفاعي الذي تحفز بقوة لحمايتك من الرأي الآخر ليس بالضرورة أن يكون مصيبًا، كثيرًا وكثيرًا جدًا يتحفز هذا النظام للحفاظ عليك داخل منطقة الراحة لا أكثر.
المقصود بمنطقة الراحة هو وجودك في حالة من التوازن، فالآراء تبنى عليها مشاعر والأخيرة تتحول لسلوكيات وأفعال، وبما أنك منسجم مع آرائك الحالية وتعايش مشاعر مرتبطة بها وتمارس سلوكيات تعبر عنها فإن وجود رأي مختلف وقوي سيزعجك بشدة، لأن حجة هذا الرأي القرية ستشعرك بأن عليك أن تعيد التفكير مجددًا وهذه عملية مجهدة، وستظهر لك مخاوف من كونك قد تتوصل بعد إعادة التفكير لكونك مضطر لتغيير رأيك الحالي وتبني رأي جديد، هذا بالطبع سيسبب فوضى عاطفية بداخلك، والخطر الأكبر الذي يتحفز تظام الدفاع لحمايتك منه هو اضطرارك لتغيير سلوكياتك أو بعضها، هذا قد يثير بداخلك المخاوف المتعلقة بالرفض الاجتماعي، لهذا يخاف الناس من التغيير حتى في الأشياء البسيطة.
دعنا نطرح مثالًا: أنت تتبنى رأيًا مفاده أن الكتاب الورقي لا غنى عنه وأن الكتاب الرقمي مهما بدا جيدًا ومفيدًا فلا شيء يضاهي الورق ورائحته، جميل! هذا هو رأيك الذي ولد شعورًا رائعًا لديك كلما لمست كتابًا ورقيًا أو دخلت مكتبة أو مررت بها، وأنت قد عبرت عن هذا الرأي مرارًا وتكرارًا في دائرة معارفك وأصدقائك، بل قد تكون قد خضت جدالًا حادًا حول الموضوع مع البعض أو كتبت منشورات بهذا الخصوص أو أو أو والسلوكيات كثيرة، اليوم يمر أمامك مصادفة منشور بتحدث صاحبه عن ضرورة التحول للكتب الرقمية ومقاومة هذه النوستالجيا ا الغير منطقية للكتاب الورقي، وحجته أن الكتاب الورقي يتسبب في هدر موارد البيئة وهو يهدد استدامة الموارد، كما أن كلفته الإنتاجية أعلى من الإنتاج الرقمي، ويتحدث عن أن المكتبات المكدسة بالكتب في البيوت تستهلك مساحات يمكن الاستغناء عنها وأنها لا تناسب روح العصر ولا التزايد السكاني والحاجة للتحول لمنازل ذكية وذات طابع عصري تفي بالغرض وتقلل هدر المساحات لإتاحة فرص أوسع لتوفير منازل لآلاف الأشخاص الآخرين، كما يحدثك عن كون الكتاب الرقمي يضع في اعتباره تلبية احتياجات ذوي الاحتياجات الخاصة والأشخاص الذين يعانون من ضعف البصر أو انعدامه وأنه بذلك يحقق المساواة في نيل العلم والمعرفة ويحترم كرامة الإنسان وحقوقه على نحو أفضل، حين تتعرض لرأي كهذا فإنك قد تشعر بأنك مهاجم فعلًا، وأن الطرف الآخر يسعى لإقناعك بقوة، والحقيقة أنه يعرض رأيًا قويًا ولا يستهدفك لذاتك وأنت كفرد لا تعنيه في شيء، وسواء قبلت رأيه وصادقت عليه أو رفضته فأنت بالنسبة له لست مؤثرًا كما تظن، كل ما في الأمر أنك قد شعرت بالتهديد وأنك مطالب منطقيًا بإعادة النظر في الموضوع ووضع اعتبارات جديدة في حسابك لم تفكر بها من قبل.
والآن لنفترض أنك أدركت بعقلك الباطن من المراجعة السريعة أن هذا الرأي قد يكون صائبًا فما الذي يمكن أن يحدث؟ سيحاول عقلك الباطن حمايتك لأنك لو تبنيت هذا الرأي فسيكون عليك سداد فاتورة عاطفية كبيرة ومؤلمة، ستخسر الكثير من المشاعر التي كانت تسعدك وستضطر لمواراتها التراب، ولنفرض أنك قوي عاطفيًا واجتزت هذه المرحلة، هنا سيحاول عقلك الباطن حمايتك من مخاطر تغيير سلوكك، فيدفعك للتفكير في هذه السيناريوهات مثلًا:
– ماذا سأفعل بمكتبتي اليوم؟
– ماذا ستقول زوجتي إن أخبرتها بأني قررت الاستغناء عن مكتبتي التي طالما تشاجرت معها لأنها لا تنفض عنها العبار وأنها غالية علي؟
– ماذا سيقول فلان الذي ناقشني حول هذا الموضوع منذ سنة وقد ثرت عليه؟
– ماذا سيقول أبنائي عني بعد أن كررت مرارًا على مسامعهم أنهم لا يفهمون فيمة الكتاب لأنهم لم يعيشوا تجربتي؟
– ماذا سأفعل بمنشوراتي التي أفضت فيها في رأيي السابق؟
وهكذا تتزايد السيناريوهات لا شعوريًا، وأنت قد تكون قوي وواعي كفاية لتتبنى رأيًا جديدًا أو تقع في الفخ، فيستجيب جهازك الدفاعي لجرس الإنذار ويبدأ بمحاولة تصيد الأخطاء للطرف الآخر ويدفعك للرد بطريقة غير منطقية وهجومية وغائبًا تنطوي على الشخصنة، البعض قد يفقد السيطرة تمامًا فيتطاول لفظيًا على الطرف الآخر للأسف.
والآن تذكر هذا كلما قبضت على نفسك متلبسًا بفعل مشابه، أعد التفكير مليًا بالأمر، وراجع سلوكك في الرفض، وكلما وجدت نفسك عصبيًا وتتعامل بطريقة شخصية فاعلم أنك تشعر بالتهديد، وأن هذا التهديد بداخلك وحدك، وأنك تواجه رأيًا قويًا فتعامل معه باحترام من فضلك.
أضف المنشور للمفضلة
اشترك في مدونة نسمة السيد ممدوح
كن أول من يقرأ جديد المقالات والقصص والمراجعات
تعليقات القراء
أحدث المنشورات
مراجعة رواية ساي لسحر خواتمي وهبة أعرابي
سلسلة فيء الغمام لسحر خواتمي وهبة أعرابي
بداخل كل منَّا جمانة عليه أن يكتشفها ويحفظها، وجميعنا بحاجة لسلام يريح نفوسنا، وجود في عواطفنا، وكلنا نحلم بزينة تجمل…
في ظلال الفصحى
هل تساءلت يومًا عن الفرق بين منشور طويل على منصات التواصل الاجتماعي وبين كتاب تقرؤه؟ لقد تغير الواقع كثيرًا، وأسئلة…
أنا لا أخشى جحر الثعبان
مضت سنوات جاوزت العشر على مقال كتبته ونشرته على موقع مصراوي، حين قرأ أبي المقال قال لي: “لقد وضعتِ يدكِ…
نحن فنانون وأدباء ولسنا تجارًا
تلعب المسابقات دورًا هامًا في شحذ المهارات والقدرات واكتشاف المواهب، وتشبع كلًا من المتسابقين والجمهور نفسيًا، إنها تجربة فريدة تحمل…

نسمة السيد ممدوح
كاتبة ومذيعة مصرية من مواليد 1986، حاصلة على ليسانس الآداب قسم الإعلام – إذاعة وتلفزيون عام 2008.
اترك تعليقاً