أنا لا أخشى جحر الثعبان

أنا لا أخشى جحر الثعبان

0
(0)

مضت سنوات جاوزت العشر على مقال كتبته ونشرته على موقع مصراوي، حين قرأ أبي المقال قال لي: “لقد وضعتِ يدكِ في جحر الثعبان، فانتبهي!”، لم يكن المقال سياسيًا أو دينيًا ليكون أهلًا لتعليق كهذا، غمرتني الدهشة في ذلك الحين، لكن أجدني اليوم أذكر ذاك المقال بعد منشور استوقفني، وتعليق أثار استيائي، وذكريات عديدة قد تواردت على ذهني.

لقد كان موضوع مقالي القديم عن اللغة العربية وأهمية اتقانها والاعتزاز بها، وكنتُ أتحدث عن ضرورة إلمامنا كعرب بقواعدها، لكني قسمتُ تلك القواعد لمستويات، فبعضها أساسيات حقًا كرفع الفاعل ونصب المفعول به وجر الاسم بعد حرف الجر، الخ، وبعضها أكثر تعقيدًا كإعراب لا سيما وإلا وغيرها، وبعضها وسط بين هذا وذاك كالعدد والمعدود والممنوع من الصرف، حتى لحظة كتابتي لهذه الأسطر، أنا أؤمن بما كتبتُ سابقًا جملة وتفصيلًا، لكن ما دفع أبي لقول ما قال قد اكتشفته بعد سنين من المشاهدة والتفاعل.

يتفاخر البعض بمعرفته بقواعد العربية بطريقة مثيرة للاستفزاز حقًا، ينسى هؤلاء أن النحو أكثر غزارة وتعقيدًا من خيالهم، وربما قسم كبير منهم يحكم على النحو ومدى صعوبته معتمدًا على ما قرأه في كتبه المدرسية فقط، غير أنه لو حاول البحث عن حالة بعينها فسوف يصدم بغزارة المعلومات، والاختلافات بين أساتذة النحو، لهذا تعلمتُ طوال رحلتي في الكتابة والبحث أن بحر اللغة أكبر مما نتصور، وأجيب دومًا بأنه “على حد علمي فالصواب كذا أو كذا”، ولا أجزم إلا في القليل من الحالات، وحيث يرتبط السؤال بشيء من الأساسيات التي لا جدال حولها.

صنف آخر من الناس يسوؤه أن يجد من يُحْسِن اللغة ولو لم يدعِ ذلك، فتراه يتصيد الأخطاء، ويسعى لطرح أسئلة معقدة لينال من خصمه الذي ليس بخصمه من الأساس.

وصنف ثالث يحاول استعراض معلوماته سواء كانت متعلقة بقاعدة نحوية، أو كان أساسها قائمة لا بأس بها من المفردات اللغوية – يستعرضها متناسيًا أن لكل مقام مقال كشأن صاحب التعليق الذي دفعني لكتابة هذا المقال.

وصنف أخير هو الأسوأ برأيي، صنف يخلط بين الخطأ النحوي والإملائي والطباعي، ويسخر ويتهكم على كاتب النص إن صادفه خطأ من هذا أو ذاك، وهو غير مدرك للفروق بين تلك الأنواع، وغير مقدِّر للوزن النسبي لكل خطأ، وغير واعٍ من الأساس لمعنى التدقيق اللغوي.

إن عثورك على خطأ نحوي – تحديدًا – أو اثنين في نص طويل يزيد على خمسمائة أو ألف كلمة معناه أن كاتب النص على قدر جيد من الإلمام باللغة؛ لكن النص غير مدقق لغويًا، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن نص قصير ركيك ومُكدَّس بالأخطاء الإملائية، وأنا أعني بها أخطاء الهجاء بشكل خاص، أما أخطاء الطباعة فلها معاملة خاصة، حيث لا تدركها عين الكاتب بسهولة لو لم يراجع النص بعد تركه لفترة من الزمن، هذا يعني أن القارئ قد يكتشف أخطاء طباعية غابت عن عين الكاتب الذي راجع نصه بالفعل؛ لكنه قام بنشره فورًا.

إدراكك لهذه الحقائق من المفترض أن يهذب سلوكك وفكرك، وأن يجعلك مدفوعًا لخفض جناحك وخلع قبعتك للغة احترامًا، وأيضًا يجعلك محترمًا لكل كاتب يسعى لتقديم أفضل ما لديه، وأن تكون داعمًا لا هادمًا لغيرك.

وختامًا، سوف تجد في مقالي هذا خطأ هنا أو هناك، فهو غير مدقق لغويًا وقد نشر بعد مراجعة واحدة فقط، لهذا استعرض معلوماتك، اسخر، أو تهكم كما يحلو لك، لكن تذكر أن اللغة أكبر من أفعالك تلك.

قيم هذا المقال

0 / 5. 0

كن أول من يقيم هذا المقال

Favorite

تعليقات القراء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

في ظلال الفصحى

هل تساءلت يومًا عن الفرق بين منشور طويل على منصات التواصل الاجتماعي وبين كتاب تقرؤه؟ لقد تغير الواقع كثيرًا، وأسئلة…

تابع القراءة
شجرة من الكتب في وقت غروب الشمس

نسمة السيد ممدوح

كاتبة ومذيعة مصرية من مواليد 1986، حاصلة على ليسانس الآداب قسم الإعلام – إذاعة وتلفزيون عام 2008.